مقدمة
سورة الإسراء، وتُعرف أيضًا باسم بني إسرائيل، من السور المكية العظيمة التي تبدأ بذكر رحلة الإسراء
لماذا الإسراء وليس المعراج؟
يقول اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىَٰ بِعْبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا﴾. ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾. [سورة الإسراء]
فمُقدّمة سورة الإسراء ذكرت الإسراء، وذكرت إيتاء الكتاب الذي هو اللحظة الفاصلة بتوقف الإهلاك التامّ، وذكرت ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [سورة الإسراء]، فكأن ربنا سبحانه وتعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: الإسراء هو علامة أنك ستنتقل من مرحلة لمرحلة أخرى مختلفة... كأن الزَّمان من سيدنا نوح إلى سيدنا موسى مرحلة، ومن سيدنا موسى إلى آخر الزمان هذه مرحلة مختلفة.
ما قبل سيدنا موسى من أول سيدنا نوح تُعتبَر نسبيًّا -لو أردنا أن نُطلق عليها اسمًا- مرحلة الاستضعاف، فلم ينزل فيها كتاب تفصيلي. أما من بعد سيدنا موسى، فقد نزل الكتاب التفصيلي؛ لأن أصبح هناك مجتمع، والجهاد بدأ يُفرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح هناك أحكام تفصيليَّة .
ربنا في بداية سورة الإسراء جمع ثلاثة أحداث• الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىَٰ بِعْبْدِهِ...﴾
• إيتاء الكتاب: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾
• إنقاذ سيدنا نوح ومن معه: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ...﴾
لنا في بني إسرائيل أُسوة، لذلك أكثر أمة ذُكرت في القرآن هي أمة بني إسرائيل. لماذا؟ لأنها أمة مرت بكل المراحل: استضعاف، نجاة، وتمكين. الأمة المحمدية كذلك ستمر بهذه المراحل، ولذلك الله عز وجل أورد قصة بني إسرائيل كدروس لنتعلم من أخطائهم في كل مرحلة.
سورة الإسراء ذكرت الإسراء للمسجد الأقصى ولم تذكر المعراج، لأن القضية هنا هي الأرض والتمكين. فالمسجد الأقصى هو مقياس التمكين في الأرض، ومن يملك المسجد الأقصى غالبًا هو المُمَكَّن.
الإسراء إلى المسجد الأقصى معناه أنك ستنتقل من مرحلة نوح عليه السلام ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ إلى مرحلة موسى عليه السلام ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾. بشرى أنك ستؤتى الكتاب، لذلك جاءت الوصايا العشر أيضًا في أول سورة الإسراء وفي سورة الأنعام.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ [الأنعام]، نعم الله الدينية على حسب إحسانك في تطبيق ما أنزل إليك من الوصايا الثابتة.
يقول الشيخ أحمد عبد المنعم: الله تعالى ذكر الإسراء في القرآن ولم يذكر المعراج، رغم أن المعراج هو رحلة السماء، وهو الأدهش والأعظم من حيث المشهد. لكن الإسراء ذكر في سورة كاملة لأنه يرتبط بـأرض المسجد الأقصى، وله علاقة بـالميراث الإسلامي وقيادة الأمة. فالأقصى أرض الرسالات، ومحور الصراع، ومعيار صلاح الأمة.
بالإضافة لذلك، فإن ذكر الإسراء يشير إلى الأرضية التي تبدأ منها رحلة الروح والرسالة، وهي الأرض المباركة التي تجمع بين تاريخ الأنبياء وحاضر الأمة ومستقبلها.
محاور السورة
- عقيدة التوحيد: تبدأ السورة وتمضي بالتأكيد على التوحيد والعبودية الخالصة لله، وتبيان عظمة الله وقدرته.
- قضية بني إسرائيل: تحذر السورة من فساد بني إسرائيل بسبب تجاوزاتهم وانحرافهم، وخاصة بسبب تحكمهم في الأماكن المقدسة.
- المسجد الأقصى: محطة الإسراء، ومركز الصراع، وأرض البركة التي تحمل رمزية عظيمة في حياة الأمة الإسلامية.
- معايير النصر: توضح السورة أن طريق النصر هو بالعبادة الصادقة، التقوى، والتمسك بكتاب الله.
- التحذير والوعيد: تُبرز السورة سنن الله في تكفير الظلم والطغيان، والتأكيد على العدل والإنصاف.
رسائل للأطفال والناشئة
- أنتم الجيل الذي سيعيد للمسجد الأقصى مكانته وأمجاد الأمة الإسلامية.
- سورة الإسراء تخاطبكم: اقرأوا، احفظوا، وفكروا في دوركم المستقبلي.
- قصة الإسراء قصة قيادة إيمانية، وارتباط دائم بالأقصى وقضايا الأمة الكبرى.
- التعلم المستمر والتمسك بالكتاب والسنة أساس قوة الأمة وتجددها.
وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا – تحليل الآيات (4-8)
جزء من الآية الثامنة من سورة الإسراء، يحمل وعيدًا وتحذيرًا إلهيًا خالدًا.
- هذا العهد ليس تشجيعًا على الفساد، بل هو إخبار بعلم الله السابق بأن بني إسرائيل سيؤذون في الأرض مرتين. - الفساد: الكفر، والظلم، وقتل الأنبياء، وعدم تنفيذ أوامر الله. - العلو: الاستكبار والطغيان، والاستعلاء على الناس وعلى أمر الله.
- عندما يفسدون أول مرة، ينزل الله عليهم عقوبة، ويرسل عبادًا لنا أولي بأس شديد، أي جيوشًا قوية لا تقهر. - من المحققين من قال إن المراد هم البابليون بقيادة نبوخذ نصر الذين دخلوا بيت المقدس وهدموا الهيكل. -كان وعد الله مفعولًا : تعليم على أن ما وعد به الله لا بد أن يقع، لأنه من سننه الكونية والإلهية.
- بعد أن أُذِلّ بنو إسرائيل، ردَّ الله عليهم الكرَّة، أي أعطاهم النصر مرة أخرى. - أعاد إليهم المال، وأعطاهم الذرية، وزاد عددهم. - هذه النعمة كانت اختباًرا جديدًا، ليروا هل يستمرون في طاعة الله أم يعودون إلى الفساد؟ - وهذا يُظهر عدل الله ورحمته، حيث يُعيد الكرامة بعد الذل إذا تاب العبد.
- هذه الآية تحذر من العودة إلى الفساد بعد النعمة. - إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم: الخير لكم، والشر كذلك عليكم. - وعد الآخرة: العذاب الثاني الذي سيكون أشد. - يسوء وجوهكم: يكون وجهكم مليئًا بالحزن والذلة. - يدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة: يعود أعداؤهم ليدخلوا المسجد كما فعلوا من قبل. - ليتبروا ما علوا تتبيرًا: ليهدموا كل ما ارتكبه بنو إسرائيل من علو وفساد.
- رغم كل ذلك، يُخبر الله أنه قد يرحمهم إذا تابوا ورجعوا إليه. - لكن إن عادوا إلى الفساد، عدنا: أي نحن نعود بالعذاب. - جعلنا جهنم للكافرين حصيصًا: جهنم مكان تجمّع الكافرين، لا مخرج لهم منها.
إضاءات حركية من سورة الإسراء
هل نستجيب لنداء الإسراء؟
سورة الإسراء ليست فقط عرضًا لمعجزة نبوية، بل نص استراتيجي لحركة الأمة. فهل نعيد للقرآن دوره كقائد لحركتنا؟
1. عمى البصيرة في سورة الإسراء: حين تغيب المرجعية
قال تعالى:
﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ﴾ [الإسراء: 97-98]
يفسّر الأستاذ محمد النوباني هذا العمى بأنه عمى البصيرة لا البصر، ناتج عن الإعراض عن آيات الله وترك الوحي. في السياق الحركي، يُعد هذا وصفًا دقيقًا لأحوال الأمم حين تتخلى عن مرجعيتها القرآنية.
2. قوانين ربانية في سورة الإسراء: خارطة الانتقال من الاستضعاف إلى التمكين
﴿سُبْحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِ لَيۡلٗا...﴾ [الإسراء: 1]
السورة ترسم أكثر من 26 قانوناً لحركة الأمة نحو التمكين، من خلال عرض سنن اجتماعية وسياسية تبدأ من المعجزة وتصل إلى قواعد التغيير الشامل.
3. قصة بني إسرائيل: التاريخ كدليل استبصار للمستقبل
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسْرَٰٓءِيلَ...﴾ [الإسراء: 4-7]
هذه الآيات تمثل قانونًا متكرراً: يعلو الظالمون، ثم يُمهَلون، ثم يُؤخذون، وفي هذا سنن نصر وهزيمة يجب أن نتدبرها.
4. الروح في سورة الإسراء: القرآن سر الحياة
﴿وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ...﴾ [الإسراء: 85]
يرى الأستاذ محمد النوباني أن المقصود بالروح هو الوحي، أي القرآن، الذي يُنعش الأمة ويعيد لها الحيوية والفاعلية.
5. من الإسراء إلى القرآن: المعجزة المستمرة
الحدث الخارق كان المعراج، لكن المعجزة الباقية هي القرآن. هو الرابط الأبدي بين السماء والأرض، ومشروع الأمة الحضاري.
6. سورة الإسراء وميزان السنن الربانية
﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ...﴾
السنن الربانية لا تحابي أحدًا، والنصر ليس هبة بل نتيجة طبيعية للانسجام مع قوانين الله. أما الهزيمة فقد تأتي من داخل الصف المسلم نفسه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، ومن يستهدي به، ومن يستمد منه، ومن يتبعه، ومن يستمسك به، وارزقنا صلاة في بيتك المبارك في المسجد الأقصى، ونسألك يا رب العالمين أن تجعلنا من عبادك الذين ينصرون دينهم، ولا تكوننا من المستبدلين، ولا تستبدلنا، وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.